Al Rawiya

عن التراث والغصّة: نولٌ وإبرة من غزة

مقدمة:
كأفراد منغمسين/ات في الحفاظ على التطريز والمنسوجات التقليدية من بلاد الشام، نعتز بأولئك الذين يمارسون التقنيات التقليدية ونرغب في البقاء على اتصال معهم/ن. يمكنك أن تتخيل رعب معرفة أن أحد آخر نساجي مجدلاوي الشهير في غزة قد سقط ضحية لهجوم العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي بدأ في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لم يعد لدينا المزيد من الكلمات لوصف الإرهاب الهائل الذي يواجهه أشخاص مثله وعائلته على أيدي الاحتلال الإسرائيلي. حيث أنهم الآن نازحون داخليًا في غزة بعد إجبارهم على ترك منزلهم ونولهم الثمين، وكلاهما مدفون الآن تحت أنقاض ما كان حيهم في السابق. في هذا السياق، نتعمق في التراث الغني لتقاليد المنسوجات والتطريز في غزة، ونسلط الضوء على الجهود الدؤوبة لشعبها والمجتمع الفلسطيني الأوسع، أينما وجدوا، للحفاظ على هذه الممارسات ودعمها

سوق مجدل عسقلان الحيوي. (1934 و 1939) .. صورة برعاية قسم الصور الفوتوغرافية للمستوطنة الأمريكية (القدس)، مجموعة ماتسون (ج. إريك و إديث) للصور.

 يُحتفظ بها في قسم الطباعة والصور في مكتبة الكونغرس.

الاعتزاز بتراث مكان يدعى المجدل

اسم المجدلاوي مشتق من بلدة مجدل عسقلان في المنطقة الشمالية التاريخية لغزة. يستذكر ما حل بهذه البلدة بعد النكبة أولئك المكرسين/ات للحفاظ على التراث الفلسطيني، لأسباب لا تتعلق بالمنسوجات فحسب: منذ ذلك الحين، لم يتوقف الاحتلال عن مهاجمة بعض أكثر المعالم الثقافية أصالة في المجدل. في تموز/يوليو 1950، فجرت قوات الاحتلال الإسرائيلية ضريح حسين الذي يعود للقرن الحادي عشر في المجدل، إلى جانب مسجدين في بلدتي يبنا وأسدود القريبتين. إن مراجعة  هذا التاريخ بمثابة تذكير مؤلم بالأحداث التي شهدها أواخر عام 2023، حيث دمرت إسرائيل المسجد العمري – الأقدم في غزة، خلال شهر كانون الاول/ديسمبر. ناهيك عن الهجوم الصاروخي على كنيسة القديس بورفيريوس في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من الأشخاص الذين لجأوا إلى الاحتماء في حرم دار العبادة.

المهرجان السنوي في ضريح الحسين في مجدل (1943)، مجموعة ماتسون (ج. إريك و إديث) للصور.

يُحتفظ بها في قسم الطباعة والصور في مكتبة الكونغرس.

كانت البلدة، المعروفة بنسيجها المتقن الصنع، مزدهرة على عدة أصعدة، إلى حين النكبة في عام 1948، حيث تم طرد شعبها من أراضيهم ومنازلهم. طرحت تربة مجدل الخصبة محاصيل مختلفة كانت تغذيها آبار المياه المشتركة بين سكان المدينة. كان يقوم أرباب الأسر بسحب المياه من الآبار العميقة باستخدام عجلة مائية (او ناعورة) بمساعدة جمل أو ثيران قوية. على حدود المدينة كانت هناك أفدنة مليئة بأشجار الزيتون والتين والجوز والنخيل.
نسّاج فلسطيني يعتني بنوله في مجدل. (1934 و 1939)، صورة برعاية قسم الصور في المستوطنة الأمريكية (القدس)، محفوظة في قسم الطباعة والصور في مكتبة الكونغرس.
وبصرف النظر عن الازدهار الزراعي، اعتبرت المجدل كمركز للنسيج. كان لكل منزل نول خاص به، وهو عبارة عن أداة مصنوعة من الخشب والخيوط تنتج المنسوجات يدوياً عن طريق تشابك الخيوط. كانت عائلات المجدل تفخر بتجارتها. أنتجوا أقمشة غنية بالقطن والكتان والحرير من مواد مستوردة من مصر3. كان سوق وسط المدينة يستقبل الزوار من بلدات ومدن أخرى كل يوم أربعاء4. وكانت الأقمشة الخاصة بخياطة اثواب قرى غزة تحاك في المجدل. النسيج المجدلاوي، الذي يتميز بالأرضية الزرقاء الغامقة مع خطوط زاهية الألوان كالبنفسجي أو الأرجواني أو الأخضر، يزين معظم الاثواب في المنطقة. هذه القماشة كانت تباع في ثمانية أمتار، وهو5 طول الثوب، ويحاك التطريز على منطقة الصدر والجوانب وأحيانًا الجزء الأمامي وأسفل الظهر، اعتمادًا على القرية التي تم فيها صنع الثوب وارتداؤه. كان هناك حوالي 500 نول في المجدل في نهاية القرن التاسع عشر6.

قوات صهيونية في مجدل عسقلان خلال الغزو الإسرائيلي. (1948)

 صورة برعاية فلسطين التاريخية على Palestine Remembered.

في شتاء عام 1948، خلال النكبة، قصفت الميليشيات الصهيونية البلدة وطردت سكانها7. بعد أن كانت تحظى بالتبجيل بين قرى منطقة غزة التاريخية، أصبح إرث المجدل باهتًا، وأصبح يُعترف الآن ببقاياها كجزء من مدينة عسقلان المحتلة. تمكنت بعض العائلات من أخذ أنوالها عندما أجبرت على الفرار من منازلها. حتى أن البعض تمكنوا من نقل أعمالهم معهم إلى مخيمات اللاجئين التي أجبروا على الإقامة فيها في ما يعرف الآن باسم قطاع غزة.
فستان منطقة غزة من قرية إسدود في قماش مجدل مع نمط على شكل V على لوح الصدر (حوالي 1935). صورة برعاية مركز تراث (مجموعة وداد كوار).
التطريز الفلسطيني في غزة وخارجها

لقرون، حتى أواخر الأربعينيات، كانت النساء في القرى الفلسطينية يرتدين زي مطرز على شكل سترة يسمى بالثوب. وفي الوقت نفسه، ارتدت نساء المدينة ملابس تشبه الأنماط الأوروبية أو العثمانية. كان التصميم العام لثوب المرأة شهادة حية على هويتها، فلم يكشف فقط عن المنطقة التي تنتمي إليها ولكن في بعض الأحيان حتى عن قريتها بالتحديد. كان لمعظم أثواب القرى في الأجزاء الوسطى والجنوبية من البلاد نقش مربع على منطقة الصدر. ومع ذلك، خاصة في إسدود والمنطقة الشمالية من غزة، تميزت الأثواب بشيء فريد: نمط على شكل حرف V على الصدر يشبه القلادة، والذي أصبح مرادفًا لغزة. أشارت نساء تلك الأيام إلى النقش على أنه قلادة. رؤية هذا النقش على الوسائد المعاصرة أو أغطية الطاولة في يومنا هذا يشعر الفلسطينيين/ات وغيرهم من عشاق الثقافة وتجلياتها بحنين إلى غزة.

علامة أخرى على أن الثوب ينحدر من المناطق الريفية في غزة تكمن في عدد من النقوش الهندسية المختلفة التي قد تزين جانبي الثوب. مثال على ذلك هو شكل يشبه المقص و ايضا يسمى المقص. على الرغم من تجربة النزوح المؤلمة، تمكنت النساء من الحفاظ بهذه التقاليد. وقد نجت نقوش التطريز عبر اللاجئات اللواتي أجبرن على الخروج من هذه القرى إلى أماكن مثل غزة أو الأردن في العصر الحديث.

مجموعة من النساء والأطفال الصغار يقومون بتطريز الأقمشة في اتحاد نساء رام الله (1934 و1939). صورة برعاية قسم الصور في المستوطنة الأمريكية (القدس)، مجموعة صور ماتسون (ج. إريك وإديث).

يتم الأرشفة بواسطة قسم الطباعة والصور في مكتبة الكونغرس.

مثل معظم التطريز الفلسطيني، طرزت النقوش على أثواب قرى غزة باستخدام غرزة متقاطعة تتشكل فيها الغرز على شكل حرف X. واصلت العديد من النساء والفتيات الفلسطينيات ممارسة الغرز المتقاطعة والنقوش الفريدة لكل منطقة بعد أن أصبحن لاجئات في البلدان المجاورة والضفة الغربية وقطاع غزة. ظهرت المواهب والمشاريع من مجموعات من النساء في مخيمات اللاجئين اللواتي طرزن نقوش مناطقهن على الأثواب  والإكسسوارات والأدوات المنزلية كمصدر دخل لأسرهن. يعتبر انعاش المخيم الفلسطيني في بيروت مثالاً قائماً حتى اليوم. تأسست الجمعية في عام 1969 لتحسين رفاهية الأسر الفلسطينية من خلال توظيف النساء في صناعة السلع المطرزة.
لقطة لغلاف كتاب وداد قعواروتانيا تماري نصير، “تطريز فلسطيني: النقش المتقاطع التقليدي للفلاحين”. يتوفر الكتاب الإلكتروني للتنزيل المجاني على موقع مركز تراث.
لعب هواة جمع الأثواب البارزين من تلك الحقبة، مثل وداد قعوار، دورًا حيويًا في الحفاظ على التطريز الفلسطيني. وقد وفرت توثيقاتهم/ن ومشاركتهم/ن في المعارض المحلية والدولية تعريفاً معمقاً لهذا الإرث الثقافي. لقد  فتحوا الباب أمام فهم مفصل لأنماط التطريز المميزة التي قد يميز فيها الفلسطيني/ة في الشتات الفرق بين نقش من بيت دجن في قضاء يافا وآخر من بلدة أسلافهم/ن مجدل أو إسدود.
حرفة مهددة بالاندثار

على الرغم من استمرار التطريز الفلسطيني، إلا أن فن النسيج المجدلاوي في خطر، حيث تتقلص شبكة النساجين/ات التي كانت مزدهرة في السابق في عمان وقطاع غزة، ولا يمكنها نقل التقنيات إلى جيل جديد. كانت هناك جهود رائعة من قبل مجموعة نول في رام الله لبث حياة جديدة في هذه التجارة. تعمل العلامة التجارية للملابس مع بعض هؤلاء النساجين/ات لتصميم أزياء حديثة للشباب. كان التواصل مع أحد آخر النساجين في غزة من نسيج مجدلاوي مصدر أمل للكثيرين/ات منا، خاصة وأن الحرفة قد انتقلت إلى عائلته. وكثيرا ما يشير إلى والده بامتنان كبير لأنه علمه هذه الحرفة. وكونه ابنًا للاجئين من المنطقة الشمالية التاريخية لغزة حيث بدأ هذا التقليد، فإنه يفخر كثيرًا بمواصلة إحياء هذه الحرفة. ومع ذلك، فإن الخسائر التي فرضها الحصار الإسرائيلي على عائلات مثله مذهلة. سواء كان ذلك خسارة منزلهم، أو الحزن على الأصدقاء أو أفراد الأسرة الممتدة الذين قتلوا في الغارات الجوية، أو الصدمة التي لحقت بأطفالهم، أو النضال من أجل الحصول على الغذاء والماء والطبابة، أو فقدان نولهم ومصدر فخرهم.
كل الشكر لـ سلوى قعدان  على خبرتها القيمة التي أثرت بشكل كبير في هذه المقالة.
1 Rajab, J. (1989). Palestinian Costume. Kegan Paul International.
2 Rajab, J. (1989). Palestinian Costume. Kegan Paul International.
3 Weir, S. (1989). Palestinian Costume. British Museum.
4 Kawar, Widad. (2011) Threads of Identity: Preserving Palestinian Costume and Heritage. Rimal Press.
5 Weir, S. (1989). Palestinian Costume. British Museum.
6 Rajab, Jehan. (1989) Palestinian Costume. Kegan Paul International.
7 Morris, B. (2003). The transfer of Al Majdal’s remaining Palestinians to Gaza, 1950. In 1948 and after Israel and the Palestinians. essay, Clarendon Press.

مذكرة من الفريق:

منذ السابع من أكتوبر، تم نزوح آخر نسّاج في غزة وعائلته مرارًا، حيث تم تدمير منزله وورشته بالكامل بفعل غارات جوية. يسعى النسّاج إلى نقل عائلته وعائلة أخيه – إجمالاً 12 فردًا – عبر الحدود إلى مصر، في انتظار نهاية الهجمات على غزة. قامت مجموعة نول بالتعاون مع الفنان والمؤرخ الفلسطيني ن.أ. منصور بإطلاق حملة تمويل على موقع جوفندمي لجمع الأموال لدعمهم في عملية الإجلاء. ستُستخدم أي أموال إضافية لدعم عودتهم وإعادة بناء ورش عملهم.

 يمكنك العثور على رابط التبرع هنا.

Laila Mushahwar is based in Amman, Jordan. Her educational background has been in Communications Studies. She has experience working as part of humanitarian and development programs and, more recently, in the preservation of cultural heritage. Since joining Tiraz Centre (Widad Kawar Home for Arab Dress) in 2020, she has been actively engaged in researching traditional embroidery and textile from Palestine, Jordan, and other Arab countries.

المحتوى المتعلق

DJ Aban

DJ ABANFrom Syria to Paris, Embracing Music and Culture I...

المزيد من العدد السابع