قبل آلاف السنين، كانت المرأة تُعبد في بلاد الشام وما يُحيطها من أراضٍ.
عُرفَت «ملكة السماء» بأسماء مختلفة عبر المدن، فيما أظهرت الأدلّة المتبقّية– رغم المحاولات العنيفة لمحوها– أنّ المجتمعات كانت مزدهرة ومستدامة خلال عصور عبادتها. كانت تُسمّى عشتروت في فينيقيا، وعناة في كنعان، وإنانا في سومر، وعشتار في بابل، وكوبيلي في الأناضول، واللات في الجزيرة العربية، وإيزيس وحتحور في مصر، ونيث في ليبيا.
وهذه قائمة لا تغطّي سوى جزءٍ صغيرٍ من نطاق عبادتها. كانت حاضرة في كل مكان، ليس فقط كرمزٍ مقدّسٍ بل كأيقونةٍ ثقافيةٍ: تماثيل وأصنام، وتعويذات، ولوحات كانت تُقدَّس في المعابد والمنازل وأماكن التجمّعات السياسية. نُقش وجهها على العملات، واستُعطِفت لحماية السفن، وشفاء المرضى، وضمان المحاصيل الوفيرة. كان تأثيرها واسع الانتشار لآلاف السنين، حتّى بزوغ النظام الأبوي العنيف.
ثم بدأت عبادة الرجل.
«النظام الأبوي العنيف» هو ما نراه اليوم. استخدامنا الضمائر الذكورية للإشارة إلى الله– وبالتالي إيماننا بالأنبياء الذكور، واعتماد الذكر كصورةٍ رمزية للإنسانية، والاحتفاء بالأبناء وتجاهل البنات، ونقل الجنسية والميراث عبر الأب، وانتخاب الرجال للمناصب السياسية، وتكليف الرجال ليكونوا مرشدين مقدّسين في جميع أماكن العبادة– استخدامنا الضمائر الذكورية للإشارة إلى الله، إذاً، هو أمر سياسي بقدر ما هو ديني.
نحتاج فقط إلى التحديق بأوقاتنا الكارثية الراهنة، كي نشهد واقعَ ذروة النظام الأبوي والأنظمة الإمبريالية الضارّة التي يحضّ عليها. نجد أنفسنا، كما كنا عبر التاريخ، تحت رحمة حفنة من الرجال. لا يُشكَّك بقيادتهم، محرّكهم الجشع، ويعملون بوهم الاستحقاق الإلهي، هؤلاء «القادة» يدمّرون عالمنا بفعالية.
فكرة أن الحداثة تضرّ بما هو «قديم ومقدس» تنبع من التهديدات المُحيطة بالسلطة الذكورية. ولكن، قبل أن يبني الرجل هيكله الخاص، وُجدَت مجموعةٌ أخرى من «التقاليد». فماذا يمكن أن نتعلّم من عصر الآلهة، وكيف نبني درباً للأمام، بشكلٍ هادف، في بلاد الشام وما بعدها؟
تمثال فينوس ويلندورف، من الجوانب الأربعة. معروض في متحف التاريخ الطبيعي في فيينا، النمسا. تصوير بيورن كريستيان توريسين على ويكيميديا كومنز
(CC BY-SA 4.0).
كما قُدّر من الله
يمكن للنظام الأبوي أن يستمر عالمياً بلا محاسبة، كوننا نختبره بدايةً في حياتنا الخاصة، عبر عائلاتنا. لقد جعل نفسه موازياً لـ«التقاليد» كي ينأى بنفسه عن النقد ويمنع كلّ ردّة فعل. هذا أمرٌ متعمَّد. التساؤل أو التعبير عن الرأي أو المطالبة بالتغيير، جُعلَ وكأنّه أمرٌ محرّم. وبات التقدّم بمثابة تجديف. فقط عندما يغلّف النظام الأبوي العنيف نفسه بعباءة التقاليد وما تستدعيه هذه الكلمة من مشاعر عميقة، يمكنه أن يواصل حكم المنزل كما الدولة.
عندما كنت فتاةً صغيرةً، لم أكن أعرف كيف أعبّر عن التمييز والمعاملة المختلفة التي تلقّيتها، نسبةً لأخي أو أقاربي الذكور. استشعرتُ، وبحقّ، أنّ الأمورَ لم تكن عادلة. أذكر حادثةً لغويةً أزعجتي خلال المراهقة: كنت الطفلة الأولى في العائلة، سوى أنّ والدي صار «أبو ليث» وأمي «أم ليث» عند ولادة أخي الصغير، بعد ثلاث عشرة سنة من ولادتي. وعند طرحيَ الأسئلة الصعبة، كانت الإجابة دوماً «لأنّ هذا ما قدّره الله». طبعاً، الردّ بـ«لأنّ» على سؤال الـ«لماذا»، مجرّد تمويه، يوحي وكأنّه ما من منطق خلف هذه المعتقدات.
عند التفكير في التقاليد على أنّها ممارسة الأشياء «بطريقة معيّنة لفترة طويلة»، علينا التدقيق بالطابع الزمني بعنايةٍ هنا. لماذا؟ لأنّ الأديان الإبراهيمية لم تنوجد إلّا قبل أقلّ من 3,000 عام. عبادة الآلهة، وفقاً للتقديرات المتحفّظة، كانت موجودة لما يقارب الثمانية آلاف عام، من العام 7,000 قبل الميلاد وحتّى إغلاق آخر معابد الآلهة-الأنثى في العام 500 ميلادي. توجَد أدلّة تشير إلى أن عبادة الآلهة-الأنثى تعود إلى الـ25,000 قبل الميلاد. وهذه فترة أطول بأشواط من الفترة الوجيزة ما بعد إبراهيم.
لذا عندما نتحدّث عن «التقاليد» بموضوعية، علينا أن نضمّن ذلك آلاف السنين الحيّة من دون شك في وعينا الجماعي، عميقاً في عظام أسلافنا. محاولة تصوّر مستقبل بلاد الشام مع استبعاد عبادة الآلهة تنمّ عن جهلٍ وضيقِ أفق. لا يمكن استخدام «التقاليد» بشكلٍ هادف ضدّ الثورات أو التقدّم أو الإصلاح، إن كنا انتقائيين باختيار أي أجزاء صغيرة سوف نتبنّاها في تاريخنا.
يجب أن نفهم أنّ الحداثة– أقلّه عندما يتعلّق الأمر بالمساواة وحقوق وطقوس النساء– تتماشى بشكلٍ أوسع ممّا نعتقد مع تاريخنا الفعلي وتقاليدنا.
الإلَه كأمٍّ
كيف بدا ذلك؟ ما هي الامتيازات التي تمتّعت بها النساء في مجتمعاتنا عندما كان الإلَه امرأةً– أمّاً، محاربةً، كاتبةً، تجسيداً للحب، مصدراً لكل الخلق والمعرفة؟ فيما تتجاوز القائمة الشاملة نطاق هذا المقال، تُعتَبر المقتطفات أدناه تقدّميةً بمعايير اليوم.
نحت بارز من البرونز للإلهة إيزيس (من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي)، اكتُشف في عمريت، سوريا. قسم الآثار المصرية، الغرفة 180، متحف اللوفر. تصوير راما على ويكيميديا كومنز (CC BY-SA 3.0 FR).
في مصر القديمة، كانت تُعرف إيزيس بـ«الآلهة التي منها نشأ كل شيء». بين المؤرّخين اليونانيين هيرودوت وديودوروس وسوفوكليس، يمرّ ذكر حرية النساء المصريات؛ فقد كن يسافرن إلى السوق للتجارة وإجراء الأعمال بينما يبقى أزواجهنَّ في المنزل لنسج الأقمشة. كانت الوراثة تُنقل عبر الأم. وبما أنّ البنات كنَّ يحصلنَ على الممتلكات والأموال من أمهاتهنَّ، كانت الاستقلالية المالية للنساء من طبقة معيّنة هي القاعدة. الأدلّة المكشوفة في المقابر تشير إلى أنّ النساء كنَّ يخترنَ أزواجهنَّ ويَشغلنَ مناصب قيادية في الجيش والحكومة. ومن المثير للاهتمام أن تكون هذه الحرية مُشَيطَنة بعينها في العهد القديم: «وَأُبَطِّلُ رَذِيلَتَكِ عَنْكِ وَزِنَاكِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ»، لِما يشكّل ذلك من تهديدٍ مباشر لـ«الرب الإله» (حزقيال 23:27).
تفصيل الجزء السفلي من اللوحة الحجرية الجيرية التي تصور قه وعائلته وهم يعبدون الإلهة عناة. اكتُشفت في أبيدوس، مصر، حوالي 1250 قبل الميلاد. قسم مصر والسودان، المتحف البريطاني. تصوير هيئة أمناء المتحف البريطاني (CC BY-NC-SA 4.0).
في أوغاريت في شمال كنعان (ما يُعرَف اليوم باللاذقية في سوريا)، كانت الآلهة عناة تُبجَّل بوصفها «القوية»، «سيّدة السماوات العليا» بلا منازع. يشمل إرثها القوي قتلها بيدَيها العاريَتَين «موت»، إلَه الموت وتجسيد الشر. تكشف التنقيبات في أوغاريت أن النساء كنّ يحتللنَ مناصب عليا في بيوتهنَّ. كانت النساء المطلَّقات والأرامل يحتفظنَ بممتلكاتهنَّ، وكان الأزواج يتركون ممتلكاتهم لزوجاتهم عوضاً عن تركها لأطفالهم. كانت النساء في كنعان يستطعنَ شغل مناصب في الحكومة، وتشغيل الأعمال التجارية بشكلٍ مستقلّ، وتقديم الشهادات كشهود.
عملة فينيقية من صيدا تعود إلى القرن الرابع – الثالث قبل الميلاد. تُظهر العملة الإلهة عشتار تقف على سفينة مع نجمة فوقها، مما يرمز إلى الخصوبة والحماية. تصوير راينهارد ساكزويسك. مجموعة Münzkabinett، متاحف الدولة في برلين. تم تعديلها بموجب (Public Domain Mark 1.0).
في فينيقيا المجاورة، كانت النساء يشغلن أدواراً حصريةً ومرموقةً ككاهناتٍ في المعابد. كنَّ مسؤولات عن إجراء الطقوس الدينية وخدمة المصلّين الذين كانوا يسعون للحصول على النعم والحماية من الإلهة– المعروفة بلقب «سيدتنا». في الحياة الاجتماعية، تُظهر النقوش المتبقّية أنّ النساء والرجال كانوا يتشاركون المكان على الطاولات، يعزفون على الآلات، ويرتدون الملابس الفاخرة. تصوّر العملات من صيدا القديمة الإلهة عشتروت وهي تقود سفينة فينيقية بيدها، مانحةً البركة والأمان. يكتب المؤرّخ سانفورد هولست: «كان هؤلاء الناس يحترمون نساءهم. ويبدو أنّ الشرف والاحترام الذي كانوا يقدّمونه للطبيعة الأم انتقل إلى جميع النساء في مجتمعهم». حتّى النساء الفينيقيات الأكثر شهرةً في التراث الغربي– أوروبا، ديدو، إيزابيل– كنّ جميعهنّ شخصيات سياسية بارزة استمرّ إرث سلطتهنَّ وتأثيرهنَّ حتّى يومنا هذا.
بفضل الوثائق التي نجت من العصور القديمة في بلاد ما بين النهرين (العراق اليوم)، يمكن رصد أنماط لافتة، في سومر وبابل مثلاً، حيث كانت عشتار تُعبَد كـ«ملكة السماء، إلهة الكون» التي «تقودنا بيدها» من الفوضى. وحتّى لمّا أخذت المنطقة تتبنّى التوجّهات الأبوية، ظلّ اتّباع عشتار قوياً. كان يتعين الحصول على إذن الزواج من كلّ من الأم والأب للعروسَين. كان تعدّد الأزواج– لناحية اتّخاذ الزوجة أكثر من زوج– مقبولاً لسنواتٍ عديدة. ولكن خلال إصلاحات أوروكاجينا الأبوية في 2300 قبل الميلاد، أُدين هذا «الزنا»، فقط بما يتعلّق بالنساء: «النساء في الأيام الخوالي كنّ يتزوجن بزوجين، ولكن نساء اليوم سيُرجمن إن فعلن ذلك».
عبادة الإلهة، ومنذ بزوغها في العصر الحجري القديم والحديث، امتدّت عبر القارات والبحار– من الأناضول إلى الهند، من كريت إلى كنعان، من بابل إلى اليونان، من مصر إلى إثيوبيا. أساطير «الأم الأرض»، حيث كانت الإلهة المصدر النهائي للحياة والرزق، واصلت تطوّرها مع مجتمعاتها المختلفة. كانت النساء في هذه المجتمعات يُبَجّلنَ بنفس الطريقة– ليس فقط كزارعات وحاصدات، بل كأمّهات، كمصدر البشرية جمعاء.
نقش «ملكة الليل»، وهو لوح من الطين المشوي من بلاد ما بين النهرين (حوالي 1800-1750 قبل الميلاد)، يصوّر الإلهة إنانا ويمثّل مواضيع القوة والعالم السفلي في أساطير بلاد ما بين النهرين القديمة. تصوير هيئة أمناء المتحف البريطاني، تم تعديله بموجب (CC BY-NC-SA 4.0).
سقوط الأم الأرض وصعود حواء
لم يكن سقوط إلهتنا فعلاً طبيعياً تدرّجياً، ولا هي فُقدت نتيجة وحيٍ كونيٍّ ما، بل لأنّها كانت مستهدفة من قبل الغزاة. على مدى قرون، سعى النظام الأبوي العنيف إلى القضاء على أتباعها وتحريم عبادتها. وتراجع الوضع الاجتماعي للنساء بشكل ملحوظ مع سقوطها.
الغزاة الهندو-أوروبيون القادمون من الشمال، في سعيهم لمحو الإلهة وترسيخ النظام الأبوي الجديد، دمّروا الأصنام، واللوحات، والمنحوتات، والسجلات المكتوبة. ومع غزو المدن وتحويلها، أُعيدت كتابة الأساطير. غالباً ما كانت الإلهة تُختَزل بـ«زوجة» أو «رفيقة» إله ذكر. على سبيل المثال، في الأناضول، عيّن الغزو الحيثي زوجاً على إلهة الشمس في أرينا. في سومر، تُسحَب إلهة العالم السفلي القوية إريشكيجال عن عرشها، وتُجبَر على الزواج من مهاجمها، الإله نرجال. في حالات أخرى، حُذفَت الإلهة تماماً أو تحوّلت إلى رمزٍ شيطاني مرتبط بالظلام والشرّ. أُحرقَت المعابد (أحياناً والمؤمنون بداخلها) أو حُوّلَت لتُناسب عبادة الإله الذكر. وُصِفت عبادة الإلهة بأنّها وثنية ومتعدّدة الآلهة، ولأجل هذا الجرم شُرّد أتباعها وقُتلوا واغتُصبوا ورُجموا واستُعبدوا.
في النصوص الإبراهيمية، يعتبر الكره للإلهة وأتباعها محورياً. هي العدو. يوثّق العهد القديم من غير قصدٍ عبادةَ الإلهة وانتشارها: يحذّر صموئيل المؤمنين بأن «انْزِعُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ وَالْعَشْتَارُوثَ مِنْ وَسْطِكُمْ، وَأَعِدُّوا قُلُوبَكُمْ لِلرَّبِّ وَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ» (صموئيل 7:3). يصف إرميا طقوس عبادة الإلهة البسيطة: «الأَبْنَاءُ يَلْتَقِطُونَ حَطَبًا، وَالآبَاءُ يُوقِدُونَ النَّارَ، وَالنِّسَاءُ يَعْجِنَّ الْعَجِينَ، لِيَصْنَعْنَ كَعْكًا لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ»، لكن هذه الأفعال تثير غضب الله (ارميا 7:18). يعبّر سفر التثنية (21: 10-14) بالتفصيل عن تعليمات للمهاجمين العبرانيين بأخذ زوجة من أسراهم «الوثنيين» بعد منحها شهراً للحزن على والديها. ثم تُغتَصب من قبل زوجها الجديد الذي قتل عائلتها بأكملها. في سورة النساء في القرآن الكريم (4:117)، يُشار إلى عباد الإلهة بالاسم: «إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا». في كلّ من الكتاب المقدّس والتوراة، تُذكر مدن معيّنة وتُستخدم رموز الأفعى والبقرة– المرتبطة منذ فترة طويلة بعبادة الإلهة– للتحذير بشكلٍ رمزي من «طائفتها».
تمثال صغير من الطين المشوي من الفترة الإمبراطورية الرومانية المصرية (قُرابة القرن الثاني الميلادي) يظهر امرأة تحيط بها قبّعتان، ما يرمز إلى إلهة أو شخص ذي مكانة عالية. هدية من جوزيف دبليو دريكسل، 1889. معروض في متحف المتروبوليتان في الجادة الخامسة، في المعرض 171. (Public Domain).
الغضب الذكوري تجاه الإلهة كان يُعتبر مشروعاً لأنّه نابعٌ من موقفٍ أخلاقي مزعوم. حتّى في ذلك الحين، استُغلَّ «المقدّس» من قبل الرجال. الأديان الإبراهيمية وصفت الطقوس الجنسية الوثنية بأنّها منحرفة وغير أخلاقية، ومع ذلك تمّ تبرير القتل والاغتصاب في السياق نفسه. الكاهنات المرموقات اللواتي شاركن في الطقوس الدينية المقدّسة، صنّفنَّ فجأة بأنّهن «عاهرات المعبد»، وشُوّهَت سمعتهنَّ.
من الواضح لماذا قد تعارض النساء المتحرّرات النظامَ الأبوي. لآلاف السنين، اتّبعت هذه القبائل نظام القربى والوراثة الأمومي، حيث كانت الأمّهات ينقلنَ ممتلكاتهنَّ وأراضيهنَّ إلى أطفالهنَّ. كانت الأمومة لا جدال فيها (الأمّهات يحملن ويلدن الأطفال)، بينما كانت الأبوّة أقل أهميةً وربما لم تُفهَم تماماً (الآباء يشاركون في الحبل لكن لا علاقة لهم بالحمل أو الولادة). المجتمع الأبوي الذي يقوم على نظام القربى الأبوي، بطبيعته، لا يمكن أن يسمح بالفاعلية الجنسية للنساء.
وهكذا، خلق النظام الأبوي العنيف قوانين «إلهية» حول أجساد النساء. أصبحت العذرية قبل الزواج مقدّسة وكانت خيانة الزوجة تعاقب بالموت. حتّى الأرملة أصبحت ملكاً لأخ أو والد زوجها. في الواقع، هذه «الفضائل» المفترَضة لم يكن لها علاقة بالنظام الإلهي، إنّما كانت لها كل العلاقة بتأسيس الأبوة. ويا لهذه المصادفة، أن تكون هذه القوانين قد كُتبت وطُبّقَت من قبل رجال.
المحاولة المسعورة لمحو المرأة تظهر جلياً في اللقب التوراتي للإنسانية، «ابن الإنسان [الرجل]»، الذي لا يقترح أن الأمومة لا تستحقّ التسمية وحسب، بل أيضاً يستبعدها بالكامل. جميع الأبناء يأتون إلى هذا العالم عبر الرحم. ظهور حواء من ضلع رجل أقل احتمالاً بكثير من ظهور آدم من رحم امرأة. ومع ذلك، بشخطةٍ واسعة وجاهلة، محونا ملكة السماء العظيمة واعتمدنا مقاربة «المُساعِدة» الوديعة والخاضعة للرجل، والتي وُلِدت من ضلعه، قبل أن تُلام على نفيه من الفردوس.
لوحة عاجية تصور «امرأة تنظر من خلال نافذة»، قد ترمز إلى الإلهة عشتار وتتناول موضوعات البغاء المقدس والأيقونات الدينية. تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ومن المحتمل أنها من أصلان طاش، سوريا. معروضة في متحف اللوفر، باريس، الغرفة 230. تصوير راما، على ويكيميديا كومنز. تم تعديلها بموجب (CC BY-SA 3.0 FR).
عودة إلى الأصل
لماذا التمسّك بـ«التقاليد» يتقاطع بالأغلب مع تسنيد النظام الأبوي؟ الطريقة التي نعامل بها النساء اليوم– سواء كان ذلك برفض السماح للمرأة اللبنانية منح جنسيّتها لأطفالها، أو بحرمان الأم من حضانة أطفالها في حالة الطلاق، أو الجرائم المروّعة مثل «جرائم الشرف» والاغتصاب والاعتداءات التي تعاني فيها النساء بسبب الرجال– هذه الطريقة هي نتيجة النظام الأبوي العنيف الذي يتلطّى بقناع «التقاليد».
إنّها واجهة هشّة. فـ«التقاليد» الحقيقية في المشرق– الأفكار الأصلية التي تمسّكنا بها لقرون– تتماشى بشكلٍ وثيق مع حقوق المرأة. لقد حان الوقت لإنهاء توظيف «التقاليد» كسلاحٍ مُخادع.
تُشكّل الحداثة تهديداً لأنّ القوى المُسيطرة تدرك ما هو على المحكّ. النظام الأبوي العنيف سيعارض دائماً من يتحدّى حرمته الزائفة، كما يُعارض الظالمُ التحرّرَ. لقد تمّ تدريبنا على عدم التشكيك في الأديان الإبراهيمية أو السياسات والثقافات والنصوص الاجتماعية التي أنشأتها. لا يجب أن يُجعَل من التفكير النقدي مرادفاً للتجديف. مَن المُستفيد الأكبر من هذه الأنظمة؟ ومن يستمر في المعاناة بسبب قواعدها التعسّفية؟
التغيير ضروري على المستوى السياسي، لكن يجب أن يبدأ أوّلاً بفهمنا– نحن النساء من بلاد الشام والأراضي المحيطة بها– لما عرفته جدّاتنا القوّيات، وتطبيقه في حياتنا الخاصّة وفي محيطنا الاجتماعي. الكراهية تجاه النساء هي نتاج النظام الأبوي. المرأة ليست بطبيعتها «أدنى» من الرجل، ولا يجب أن نتبنّى أي جزء من النص الأبوي غير المنطقي. نحن موجودات بما يتجاوز الأدوار التقليدية كـ«أم» أو «زوجة»، وبما يتجاوز الثنائيات الدينية كـ«عاهرة» أو «عذراء». نحن أكثر بكثير من مجرّد مجموع أجزائنا. نستحق أن يوثَق بنا، أن نُحترم، أن يُعتنى بنا، أن نُصدَّق، وأن نُرفَّع. ولا نستحق أقل من أن نُعبد. بالنهاية، ذلك أيضاً «تقليد».

غنوى جوهري
غنوى جوهري هي مؤلّفة مجموعة القصائد «بنت» (2021) وحائزة على زمالات من مؤسّسة كونديمن وورشة الكتاب الآسيويين الأميركيين. تظهر مقالاتها وقصصها وشعرها في «كاتابولت»، و«ذا مارجنز»، وميزنا، و«ذا أدرويت جورنال»، و«سبليت ذس روك»، وأماكن أخرى.









